الهوية المسلوبة.. كيف يحرم انعدام الجنسية الأطفال من التعليم والصحة والانتماء؟

الهوية المسلوبة.. كيف يحرم انعدام الجنسية الأطفال من التعليم والصحة والانتماء؟
أزمة انعدام الجنسية

في عالمٍ يتسابق لتحقيق التنمية المستدامة وتمكين الأجيال الجديدة، ثمة أزمة صامتة تسرق من ملايين الأطفال أبسط حقوقهم وهو الحق في أن يكون لهم وطن، أزمة انعدام الجنسية لدى الأطفال لا تعني فقط ورقةً ناقصة في السجلات الرسمية، بل هي حرمان يومي من التعليم، الرعاية الصحية، الشعور بالانتماء، والكرامة الإنسانية.

وبحسب تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يعيش ملايين الأشخاص حول العالم دون جنسية، ويمثل الأطفال ثلث هذا الرقم تقريبًا/ إنهم أطفال يولدون وينشأون بلا هوية قانونية، في فراغ قانوني يُلقي بظلاله على مستقبلهم.

ويصف فيسا هاكينين، الممثل الدائم لفنلندا لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، هذه الأزمة بأنها صامتة، لكنها في الحقيقة تُحدث ضجيجًا في حياة من يعيشونها، وفق موقع "مهاجر نيوز"، فهي تمنع الأطفال من تلقي اللقاحات الضرورية، تسجيلهم في المدارس، وحتى الحصول على أوراق رسمية تثبت أسماءهم وتواريخ ميلادهم.

وتشير بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أنّ انعدام الجنسية يُضاعف احتمالية نشوء هؤلاء الأطفال في فقر مزمن، إذ لا يستطيعون دخول سوق العمل بشكل قانوني عند البلوغ، كما يُحرمون من الحماية الاجتماعية والمساعدة الطبية اللازمة. 

أسباب وراء انعدام الجنسية

تتنوّع أسباب انعدام الجنسية لدى الأطفال بين قوانين الجنسية التمييزية، وثغرات في التشريعات، وعدم تسجيل الولادات. في بعض الحالات، يكون الطفل ضحية نزاعات مسلحة أو نزوح جماعي أو انهيار أجهزة الدولة، فلا يجد من يسجّل ولادته. 

وفي حالات أخرى، تلعب القوانين التمييزية ضد النساء دورًا خطيرًا؛ ففي 24 دولة حول العالم، لا تستطيع الأمهات نقل جنسيتهن إلى أبنائهن على قدم المساواة مع الآباء، ما يجعل الطفل رهينة لمصير الأب، الذي قد يكون مجهولًا أو رافضًا للاعتراف به.

ووفقًا لتقارير حقوقية حديثة، فإن الأطفال عديمي الجنسية أكثر عرضة للتمييز وسوء المعاملة والاستغلال، بما في ذلك عمالة الأطفال والزواج المبكر.

وفي أوروبا، وثقت المفوضية الأممية وجود آلاف الأطفال عديمي الجنسية أو المعرّضين لانعدام الجنسية، نتيجة تعقيدات النزوح والهجرة. وفي جنوب شرق آسيا، خاصة في ميانمار وتايلاند، يعيش مئات الآلاف من أبناء الأقليات العرقية دون أوراق تثبت جنسيتهم، وفي الشرق الأوسط أسهمت النزاعات والنزوح في ظهور أجيال جديدة لا تملك أوراقًا ثبوتية.

أصوات تحذيرية وحلول ممكنة

مع تصاعد القلق الدولي، شدد فيليب لوكلير، المدير الإقليمي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين في أوروبا، على أنّ الدول تملك الأدوات الكاملة لإنهاء انعدام الجنسية، من خلال ضمان تسجيل جميع المواليد وتعديل قوانين الجنسية بحيث تمنع ولادة أي طفل عديم الجنسية.

وأوضحت ماريا تيلاليان، مديرة مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان بمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أن منح الأطفال عديمي الجنسية هوية قانونية ليس إجراءً إداريًا فحسب، بل خطوة تفتح لهم أبواب المستقبل وتمكنهم من المساهمة في مجتمعاتهم.

وتشير مبادرة #أنا_أنتمي، التي أطلقتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 2014، إلى أن أكثر من 20 دولة التزمت بإصلاح قوانينها للتصدي لانعدام الجنسية، كما تبنّت بعض الدول تدابير عملية مثل إنشاء وحدات متنقلة لتسجيل الولادات في المناطق النائية، أو تسهيل الحصول على الأوراق الثبوتية للأطفال المولودين لمجهولي النسب.

خلف الأرقام الجافة، توجد حكايات إنسانية موجعة. في أحد التقارير، تحكي فتاة شابة ولدت في بلد أوروبي لعائلة مهاجرة عن شعورها اليومي بالخوف من الترحيل رغم أنها لم تعرف وطنًا غير هذا البلد، وفي جنوب شرق آسيا يروي شاب عديم الجنسية أنه اضطر للعمل في ظروف قاسية دون حماية قانونية فقط ليعيل أسرته، لأنه لا يحمل أوراقًا تعترف به كمواطن.

تهديد للتنمية والعدالة

ويشكّل استمرار هذه الظاهرة لا يقوّض فقط حياة الأفراد، خطرًا على استقرار المجتمعات وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف 16 المتعلق بتعزيز السلام والعدالة والمؤسسات القوية، فالأطفال عديمو الجنسية غالبًا ما يجدون أنفسهم خارج المدارس، وخارج سوق العمل لاحقًا، ما يفاقم دوائر الفقر وعدم المساواة.

وترى المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن حرمان الطفل من الجنسية يقوّض مبدأ المساواة وعدم التمييز الذي يعد حجر الزاوية في القانون الدولي. وفي تقرير لها عام 2023، شددت على أن حرمان الأطفال من الجنسية غالبًا ما يكون نتيجة مزيج من القوانين التمييزية ضد النساء والأقليات، أو بسبب ظروف النزوح والصراعات.

أما البنك الدولي فيُحذر في تقريره ضمن مبادرة الهوية من أجل التنمية (ID4D)، من أن انعدام الجنسية يُسهم في ديمومة الفقر بين الأجيال، إذ يعوق الوصول للتعليم والعمل النظامي ويحد من المشاركة الاقتصادية والسياسية، ما يعرقل خطط التنمية المستدامة.

ويربط باحثو مركز دراسات اللاجئين بجامعة أكسفورد جذور الظاهرة بانهيار الإمبراطوريات، ورسم حدود جديدة بشكل تعسفي، وتشريعات تمييزية موروثة ضد الأقليات، ما جعل الأزمة اليوم أكثر تعقيدًا من مجرد قصور إداري.

المستقبل بيد السياسات 

يتفق الخبراء على أنّ إنهاء انعدام الجنسية لدى الأطفال ليس حلمًا بل هدف قابل للتحقق بالإرادة السياسية والتشريعات الشاملة، تسجيل كل طفل عند الولادة، والمساواة بين الجنسين في قوانين الجنسية، وتبسيط الإجراءات الإدارية؛ هي خطوات ضرورية لطي صفحة هذه الأزمة الصامتة.

كما أن التعاون بين الدول والمنظمات الدولية أساسي لمواجهة هذه المشكلة العابرة للحدود، خاصة في مناطق النزاع والهجرة الجماعية.

تعود مشكلة انعدام الجنسية إلى بدايات القرن العشرين، لكنها برزت بقوة بعد الحربين العالميتين حين أنتجت النزاعات حدودًا جديدة وأقليات لم تعترف بها الدول حديثة النشأة، اعتمدت الأمم المتحدة اتفاقية عام 1954 الخاصة بوضع الأشخاص عديمي الجنسية، واتفاقية عام 1961 للحد من انعدام الجنسية، لكن بعد مرور عقود، لا يزال ملايين الأشخاص، وخاصة الأطفال، يقفون على الهامش دون أوراق تثبت وجودهم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية